الجودة وتحسين الأداء في العمل معنى شريف، وخُلُق إسلامي عظيم، والملاحظ في نصوص الشريعة الإسلامية أن الله حين يأمر عباده بشيء، فإنه يأمرهم أن يأتوا به على أحسن وجهٍ وأتمِّه، فحقٌّ على كلِّ مَن شَرع في عملٍ مباحٍ أو مندوب أو واجب أن يأتي به على غاية كماله، وأن يحافظ على أركانه وشروطه وآدابه المصححة له والمكمِّلة له، فإنْ فَعلَ ذلك قُبِل عمله عند الله، بل وعَظُمَ ثوابه، وهذا المعنى مبثوث في الشريعة، فَإتقان العمل مطلوب ومندوبٌ إليه في سائر الأعمال التي يقوم بها الإنسان دَقِّهَا وَجَلِّهَا، قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فأجلُّ الأعمال الصلاة، وقد جاء الأمر بتحسين أداءِ أركانها وشرائطها،بل إن المسلم إذا مات وصار في غِنىً عن أيِّ شيء من الدنيا، فإنه ينبغي تحسينُ كَفَنِهِ ودَفْنه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلّم -: (إذا كَفَّنَ أحدُكُمْ أخاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ) وليس المقصود التبذير، فالحيُّ أولى بالجديد من الميِّت كما قال سيُّدُنا أبوبكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، بل المقصود أن تكون هيئةُ التكفين حَسنة، فيكون الثوبُ نظيفا وأبيض، ويُلفُّ على جسده لفَّا جيِّداً يستر عورتَه، أما المغالاة في الكفن فحرام، ومِن الأعمال ذكاةُ البهائم، فقد جاء الأمرُ بذبحها بأخفِّ الطرق وأسهلها وأسرعها زهوقا ترفُّقاً بها، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلّم -: (إن الله كتب الاحسان على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذَّبْح، وَلْيَحُدَّ أحدُكم شَفْرَتَه، ولْيُرِحْ ذبيحته) والإحسانُ في حقيقته فِعْلُ الملائم، أي أن العملَ الحسن هو الذي ينفع من غير إضرار، فإذا فعلتَ فعلاً ملائماً وأفضى إلى مضرَّة لا تكون محسناً، والإحسانُ مطلوب في كل الأعمال، وإحسانُ كُلِّ شيء بحسبه، والجودة كما أنها تعني القيام بالعمل على أحسن وَجْهٍ وأتـمِّه، فإنها تفيدُ أيضاً دعوةَ كلِّ مسلمٍ لكلِّ عملٍ حسنٍ بنَّاء، وتفيد أيضا النهي عن كلِّ تقصير أو إهمال والتحذير منه، (لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا، ولو أنْ تلقَى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ) وأتمُّ منه قولُه تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) شعور الإنسان بأنه سَيُسْأل عن عَمَلِهِ يَدفَعه إلى الخوف من الله بإتقان أعماله كلِّها، ويروى عن البُهلول بن عمرو الصيرفي أنه قال للخليفة هارون الرشيد: يا أمير المؤمنين كيف لو أقامك الله بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير؟ فخنقت الرشيدَ العبرةُ، فقال الحاجب: حسبك يا بهلول قد أوجعت أمير المؤمنين، فقال الرشيد: دَعْهُ، فقال بهلول : إنما أفسده أنت وأضرابك) ثم إن الجودة تشمل حتى الجلوس في الطرقات، بِغَضِّ البصر، وكفِّ الأذى وردِّ السلام وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فَبِذلك يكون الجلوس في الطرقات عملاً جائزاً ومقبولاً، بل إبداعاً، بعد أن كان مكروهاً وذميما، فبمراعاة تحسين أداء الجلوس تَنْدَفِعُ عنه جميع معاني الأذى والفساد، وتتجسَّد فيه كلُّ قِيَمِ الأدب والنُّبل والرُّقي، وجِمَاعُ ذلك كلِّه قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إنَّ الله يحب إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتْقِنَهُ) ومن الحكايات التي يستشهد بها الفقهاء لبيان هذا المعنى، أن صانعا عَمِلَ عملا تجاوز فيه، أيْ أساء، ثم دفعه لصاحبه، فلم يَنَمْ تلك الليلة، كراهةَ أنْ يَظهر مِن عمله عملٌ غير مُتْقَن، فشرع في عمل بدله، حتى أتقن ما تعطيه الصنعة، ثم غدا به لصاحبه، فأخذ الأولَ وأعطاه الثاني، فَسُرَّ الرَّجل وشكرَ الصانع، فقال الصانع: لَمْ أعملْ لأجلك، بل قضاءً لحقِّ الصَّنعة، كراهة أن يظهر مِن عملي عملٌ غير مُتْقَن، قال الصالحون: (فمتى قصَّرَ الصانعُ في العمل فربَّما سُلِبَ الإتقان) ومن أجْلِ ذلك نصَّ العلماءُ على أن المطلوبَ في الوظائف والأعمال والمناصب، أن تُنَاطَ بأقدرِ الناس على القيام بها، وأبْعَدهم عن الخطأ والزَّلل فيها، قال الشيخ العز بن عبدالسلام: (الضابطُ في الولايات كلِّها، أنَّا لا نُقدِّم فيها إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها) وقد كتب الفقهاءُ كتباً كثيرة حول ما يقتضيه العمل من الجودة وتحسين الصناعة، وبسطوا القول في كلِّ صنعةٍ من الصناعات، يعرف ذلك من قرأً كُتبَ الحسبة.