نجيب عبد الرحمن الزامل
لو كان لي مُلهم بجناحين كما حكت أول رواية في العالم «أساطير إيسوب» Aesop’s Fables، لما كان غير كتابٍ مضيء يحمل عصا المعرفة، يرفرف بجناحيه الخفاقين الأبيضين حولي.
أول كتاب قصصي في التاريخ نعرفه «أساطير أيسوب» قبل أكثر من 2500 سنة. ومنه بدأت الكتب تتوالد في سلسلة ليومنا هذا الذي يقام فيه معرض الرياض للكتاب. قد تقول كيف تكون الكتب متوالدة؟ لأنها توحي ببعضها البعض. فكتاب أساطير أيسوب أثّر وبطريقةٍ ما في كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع. حتى أن قصصا للحيوانات ظهرت في أساطير أيسوب ظهرت في كليلة ودمنة إن لم تكن بالتطابق ذاته فهي من واقع الروح ومن إيقاع الإلهام.
الكتب خالدة ما دامت الأرض باقية، فانظر أن حضارات قامت، وحضارات اندثرت، وشعوبا سادت ثم انقرضت، ومعابد ومبان شيدت ثم طُمرت.. وكتاب “أساطير أيسوب” ما زال يباع إلى يومنا هذا ويعاد طبعه بعدة لغات. فلا عجب أن أدعي أننا لم نكن لنتعرف على قصص راجت في الغرب مثل «رومانسيات الثعلب رينارد»، ورواية كافكا «المسخ» The Metamorphosis وربما لم تكن لتظهر روايات «كبلنج» ولا قصة جورج أورويل «مزرعة الحيوانات».
إن كتاب إعلان المانفستو الشيوعي لفيلسوفي ألمانيا «إنجلز» و«كارل ماركس» الاقتصاديَّيْن جر وراءه ربما ملايين العناوين من كنب ومجلدات ومقالات مستوحاة من ذاك المانفستو، إلى هذا اليوم في كتابٍ أحد أجنحة دور النشر لأكاديمي يكتب في النظرية الاقتصادية، وكأن الكتب تؤمن بتناسخ الأرواح وانتقالها بالصور التي تشرحها البراهمنية الهندية.
أنظر كم كتب خرجت من إيحاء الكتاب الشهير «العقد الاجتماعي» للفيلسوف الفخم «جان جاك روسو» العراب الفكري للثورة الفرنسية الكبرى.. ادخل أي جناح في معرض الرياض وابحث عن أي كتاب يتكلم عن شكل الحكومة والدولة بعد القرن الثامن عشر وافتحه، لابد أنك ستجد سطور روسو تضيء، إن لم تكن بين السطور، فهي في رأس كاتب السطور.
قصة «ألف ليلة وليلة»، أوحت في فرنسا من 120 عاما بألف كتاب في سنةٍ واحدة، وبمئات المسرحيات، وأول الأفلام الصامتة مثَّل فيها فتى الشاشة يومئذ فالنتينو دور شهريار الملك الذي أقسم أن ينام كل ليلة مع امرأة ثم يقتلها لأن زوجته خانته مع أحد خدمه. بل إن رجلا فابيّا ماديّا لا دينيا مثل «برنارد شو» يقول: «بينما لا يثير فيَّ الأنجيل أي شعور، فإني أنتفض قداسةً وأنا أقرأ في ألف ليلة وليلة!».
إن أول من تكلم عن الوثنية التي قيل أن الروماني قسطنطين أدخلها في المسيحية ــــ وكان الرومان قبل ذلك أنفسهم وثنيين- هو “ابن فضلان” الرحالة العربي الذي عبر نهر الفولجا في عز الإمبراطورية الإسلامية، يوم كان من حول النهر لا يعرفون موقعه من العالم، وتكلم عن وثنية أهل الشمال وخلطها مع إنجيل لوقا بالذات السائد في الشرق قبل دان براون الذي تقريبا كاد يقول الشيء ذاته أو أنه قاله بالتواءات قصصية.
ابن بطوطة هو من علم العالم السفريات الأنثربولوجية، أي تلك التي تتمعن في حضارات وعادات ووصف حياة البشر بكل نواحيها.. ولا يمكنك ولا أنا أن نخمن كم كتب خرجت بإيحاء أو عن رحلات ابن بطوطة ومن كل أصقاع الأرض، وادخل أي جناج لدار نشر في معرض الرياض وتناول أي كتاب عن الحضارات، وستجد هذا الطنجاوي متربعا ينتظرك بين الصفحات.
عالم الكتب عالم مستقل بذاته، بأجناسه، بأنواعه، بألوانه، بطقوسه، بعاداته، بشعائره، بحقائقه، وبأباطيله..
مثلنا تماما!.