
د. جاسم الياقوت
قد لا يلتفت البعض كثيراً لهاتين الكلمتين، وما هو الفرق بينهما، ولكن الواقع المحيط بنا يجعل هاتين الكلمتين تتكرران بشكل يومي في حياتنا، بل إنهما يمكن أن تغيرا حياة أمم وشعوب للأفضل أو للأسوأ. علينا أن نسأل أنفسنا هل ما نعيش فيه اليوم هو خلاف أم اختلاف؟ وللإجابة على هذا السؤال؛ لا بد النظر فيما تحمله الكلمتين من معنى.
في اللغة:
(الاختلاف): ما اتحد فيه القصد، واختلف في الوصول إليه، و(الخلاف): يختلف فيه القصد مع الطريق الموصل إليه.
(الاختلاف): ما يستند إلى دليل، بينما (الخلاف): لا يستند إلى دليل.
(الاختلاف): من آثار الرحمة، بينما (الخلاف): من آثار البدعة.
لقد قدر الله -سبحانه- الاختلاف على بني آدم، فما لنا منه من مهرب، وجعل ذلك من لوازم خلقهم، يقول –سبحانه–: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» هود:118-119
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الخلاف واقع في هذه الأمة لا محالة؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يحذره من فرق الضلال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة؛ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»
الخلاف في دين الله وشريعته مذموم، ومن له أدنى معرفة بنصوص الكتاب والسنة، يجد تواردها على ذم الفرقة والاختلاف، والترغيب في الدعوة إلى الجماعة والائتلاف، وقد تناول السلف والعلماء هذه النصوص بالبيان والتوضيح، داعين الأمة إلى الجماعة ومحذرينها من الفرقة، وآثارهم وأقوالهم في ذلك تُعجز الباحث عن حصرها، مما يؤكد أن نبذ الفرقة والاختلاف فريضة شرعية، بل من أهم فرائض الدين، ودلالات العقل، وتسند ذلك، وتؤكده الضرورة الواقعية لذلك.
وإذا كان الاختلاف في الرأي يختلف عن الخلاف، فإن الاختلاف في الرأي يختلف كذلك عن الاختلاف على المصالح. الأول يثري الفكر الإنساني ويرتقي بوعي الشعوب، والآخر يهبط بالفكر ويتحول إلى طموحات ذاتية، وقد تتطور إلى نوع من التعصب والانحياز غير الموضوعي.
وما يسود في واقعنا العربي في هذه المرحلة من خلافات، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالاختلاف في الرأي، وما هو إلا صراع على المصالح وبوسائل متدنية، لا علاقة لها بأي شيء من الفكر، ولا تمت بصلة إلى ما يسمى بالرأي والرأي الآخر. وهي تعود بنا إلى ما كان سائداً في المجتمعات البدائية.
ولكن علمنا التاريخ أن الخلاف ما يلبث أن يقع حتى يزول وتزول آثاره طال زمنه أو قصر، كثرت أضراره أو قلت، لأن الأمة لا يمكن أن تعيش في أجواء خلاف بشكل مستمر، والتي يمكن أن يتسلل من خلالها أصدقاء السوء، أو أعداء الأمس والحاضر، بهدف تحويل الخلاف إلى فرقة، وتخبط وضلال، لا يمكن لأحد أن يتوقع ما يمكن أن يحدث.
وعندما نتجه إلى قواعد المشورة؛ ندرك أن أولى قواعدها هو النزول لرأي الجماعة؛ لإعلاء كلمة الجماعة وإتاحة الفرصة للعمل الجماعي.
ولكن الحقيقة المؤكدة في كل ذلك أن المختلف، لا يدرك الصورة بشمولها في بداية اختلافه، ولا يعرف إلى أين يقوده طريقه، ولو حاول الجميع أن يردوه ما ارتد لأنه يظن أنه على حق، ولكن نعرف جميعاً أن الحق دائما ما يكون في رأي الجماعة. لذلك يخوض تجربته إلى النهاية، ويكون أبلغ الضرر يصيبه هو أولاً، ثم يصيب من يحيط به ولكن بدرجات متفاوتة.
ولكن كيف يمكن القضاء على الخلافات؟
يكون القضاء على الخلافات، باستمرار النصح والإرشاد والتوجيه، وتوضيح الأمور، أو بالتأنيب أحياناً، أو التأديب في غير ضرر. ولا يفيد في هذه الحالة محاولة الوصول إلى وجهة نظر محايدة، حيث يتم ذلك، في حالات التوازن والتوازي، ولكن إذا تجمعت وأجمعت الجماعة على أمر وجب النزول لرأي الجماعة، وهكذا تعيش المجتمعات في أمان، وتستطيع التغلب على كل خلاف. فالحياة الآمنة دون منغصات هي هدف الحياة البشرية.
وهناك خمس طرق لحل الخلافات، نذكرها، دون التعمق فيها، حيث لا يتسع مقامنا هذا لشرحها، وهي:
الانسحاب أو التنازل، التهدئة أو التلطيف، التسوية أو الحل الوسط، الإكراه أو استخدام النفوذ، أو الطرق التكاملية.
أسأل الله -تعالى- أن يصلح ذات بيننا، وأن يقوي علاقاتنا على الحق والتقوى، وأن ينقي قلوبنا من كل مرض، وأن يصلح ما فسد من أعمالنا، إنه على ذلك قدير.