تعم الأمطار هذه الأيام كل أرجاء المملكة، وتظهر الأرض بحلة جديدة وروح متوهجة، وتتعالى الأصوات من كل حدب وصوب مطرنا بفضل الله ورحمة، ونبتهل كلنا بفرح وسرور لهتون الغيث ووبُلَ الغمام، وفي لحظات ما قبل المطر نلمح في الكون وفي أفق السماء وهي تتبدى لنا لوحة جملية من إبداع الخالق ، تتلبد الغيوم فتثيرها الرياح وتسوقها إلى بلد ميت، وينبثق من أعماقه الغيم صوت الرعد وومضات البرق، فتشرأب أعيننا شاخصة نحو الـسماء فلا نـستلهم إلا قـول الحـق: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ) تغشى الأرض رحمة السماء ويبتهل كل شيء فتزدان الأرض وتبتهج وتنتعش الحياة من جديد تورق الأغصان وتتفتح الأزهار، وتتجلى لنا حقائق قدرة الله وعظمته ( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) وهنا تبرز حقيقة عجزنا في رصد كل أبعاد تشكلات حالات الأنواء وتراكم السحب وزمجرات الرعد وومض البرق ونزول المطر، لتبتهج الأرض من بعده لميلاد حياة جديدة بأنواع من الزروع المطر ذلك القادم من السماء هو الضيف الذي يسعد به كوكب الأرض ، ضيف السماء هو ميلاد يوم جديد وحياة قادمة وممتدة ومتعاقبة (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ) ونحن نمضي متدبرين الحقائق الكونية نرصد ملمحا آخر من ملامح الحياة حينما يقع المطر على الأرض الموات بعد أن أجدبت وسرعان ما تراها مخضرة متوهجة صنوان وغير صنوان، وبين رحمة تتنزل من السماء وزروعا تخرج من الأرض يرتفع صوت الأيمان وصفاء النفس التي تتجلى فيها عظمة الله وقدرته (سبحان الذي خلق الأزواج كلها … الآية )، فطربت الأرض وربت وازينت وانبتت من كل زوج بهيج وقد جسد هذا الصفاء والحياة المتجددة ورغائب الإنسان نحو جمال الطبيعة وجنان الأرض البحتري حينما قال:

أتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً

مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما

وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى

أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما

إنه غيث السماء الذي أحيا الأرض بعد موتها، تهطل السحب أمزانها في حقيقة كونية تسترعي النظر وتستدعي الوقوف إلى حالة واعية من الانتباه والتأمل لثنائيات متباينة يتجلى فيها، الموت والحياة الحركة والسكون البطء والتسارع، والمطر هو البعد الأخر للحياة ونسمع الرش أول المطر وله وقع إيقاع مختلف يتسارع المشهد بغزارته التي لا توحي باستمرار الحياة والامتداد والعطاء ودوام الخير فحسب، بل تتجاوز إلى معاني الأنس والسعادة والسرور والصلة بين السماء والأرض، ونحن هذه الأيام نعيش هذه الأبعاد بكل تفاصيلها، عم الغيث كل أرجاء الوطن، ونحن نجول بالنظر في مسرح الحياة وفي لحظات تساقط قطرات المطر بين الرش والغزارة نتأمل بوعي تعاقب قطراته وهي تسقط على الأرض فتتشظى لتروي الأرض ويخرج من بين اليباس حياة جديدة، ومن بين ثنايا الثراء ورائحة الطين تبزغ البراعم وتتفرع بألوان زاهية ويتشكل ملمح أخر من جمال الطبيعة وخيرات الأرض، فالماء سر الحياة والمطر رافدا من روافدها، وهو الأبرز في عناوين هذا الوجود ومن لا يعرف حقيقة المطر فإنه حتما لا يعرف كنه الحياة .. وإلى لقاء.